أهمية الإفتاء المؤسسي (2/3)
مع نشوء الدول الحديثة والتي تقوم على نظام مؤسسي كان من الضرورة بمكان أن تتغير طرق الإفتاء مع الإبقاء على قنوات الإفتاء التقليدية؛ كإمام المسجد المتمكن من الفتوى، وكالعالِم في حلقته العلمية بين طلبة علمه... الخ، وذلك لعدة أسباب مهمة منها :
1- مواكبة التطور : فالإسلام قادر على مواكبة التغير الحضاري والذي نشاهده في جميع أنظمة الدولة سواء على الصعيد المحلي أو الدولي، فلابد أن نجد – لا أقول موضع قدم – بل رقعة كبيرة وكمية وافرة من أدوات هذا التطور حتى نبني مؤسسة علمية شرعية ترتقي في منهجية الإفتاء وترفع من نسبة دقة الفتوى الصادرة عبرها .
2- استغلال الوسائل المعلوماتية الحديثة : إن عَالَماً تتغير معالمه وأسلوب حياته بسرعة عجيبة، وآلة تغييره وسائل الاتصال الحديثة المذهلة حتى لا نكاد نلحق بإيقاعه السريع، ثم نقف مكتوفي الأيدي حياله، لا شك أننا نسيئ لسمو ديننا وسعته العظيمة ومواكبته لكل زمان ومكان، فبرامج الحاسب الآلي والإنترنت والهاتف بنوعيه - أو قل بأنواعه - ...الخ، حَرِيٌّ بنا أن نستغلها استغلالاً جيِّداً يكمل رسالتنا العظيمة في إيصال الثروة العلمية الشرعية لأقصى حد نستطيع بلوغه من خلالها .
3- نوعية الاستفتاءات الواردة على المفتي : إن تعقيدات الحياة العصرية قلبت الحياة البسيطة والتي كان يعيشها آباؤنا وأسلافنا والتي تتناغم مع فهم فقه كثير ممن كان يفتيهم آنذاك إلى حياة شديدة التعقيد يصعب على المفتي في كثير من الأحيان أن يفك تشابك المسألة وأن يطوعها لفهمه دون أن يستشير ذوي الاختصاص من مهندسين وأطباء وبنوك ومؤسسات الدولة، وهذا بلا شك يتطلب عملاً مؤسسيًّا رفيع المستوى في الدولة ويعمل وفق نظام دقيق .
4- ازدياد عدد الأسئلة الواردة : في الماضي كان المجتمع قليلة حوادثه الطارئة التي تستدعي تدخل المفتي لحل إشكالاتها ، ولكن اليوم يعرض للفرد الكثير من الإشكالات الشرعية والتي قد تكون في مسائل مطروقة بين العامة، ولكن لاختلاف صورها تشكل عليه؛ كالجمع في السفر، والإفطار في الطائرة، وصور القمار المتعددة والتي تلبس لبوساً شرعيًّا في بعض الأحيان مما دفع كثير من الناس للسؤال عن حكم ما يواجهونه، هذا بالإضافة للأسئلة الواردة من المؤسسات المالية والتي يطرأ عليها بين الفينة والأخرى الكثير من المسائل المالية المعقدة، بالإضافة للاستفتاءات الواردة سواء من الشركات الخاصة أو الدوائر الحكومية ...الخ، فلأجل هذا كله كان لزاماً تطوير أسلوب الإفتاء المتبع.
لكن من المهم أن نجيب كيف نطور من مهمة الفتوى وما هو السبيل لذلك؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال لابد أن نقول: إننا لا نريد أن نتطور لأن العالم يتطور، بل ينبغي علينا أن نقول إنه لابد أن نتطور لأننا بحاجة للتطوير، فهناك بون شاسع بين التعبيرين.
خلال زيارتي لبعض الدول الإسلامية وإدارات الإفتاء فيها كانوا يعملون بمفهوم العبارة الأولى فتجد في إداراتهم تلك المكاتب الحديثة والكمبيوترات الراقية والبرامج المتطورة وكأنك دلفت لأحدى الشركات الكبرى في شارع وول استريت، بينما الكادر العلمي ضعيف للغاية! وآلية صدور الفتوى بدائية ومليئة بالثغرات! وهذا بلا ريب ليس التطور الذي أنشدُه هنا، فالتطور الذي أنشده هو مفهوم العبارة الثانية والتي لا بد من استشعار النقاط سالفة الذكر واستيعاب أهميتها، فعندها أستطيع أن أُعَرِّف ذلك التطور بــ :
(الانطلاق بقوة علمية شرعية قادرة على فهم تفاصيل الحياة المعاصرة متلازمة مع آلة عصرية تختصر مسافات الزمن مع كادر علمي وإداري كافٍ لتغطية مهام المؤسسة) .
فإذا علمنا أهمية المرجعية العلمية وضرورة تطوير طرق الإفتاء نستطيع أن ننتقل للنقطة الثالثة والمهمة ألا وهي : الانعكاس الإيجابي للإفتاء المؤسسي على الفرد والمجتمع والدولة .
أ – على الفرد : لا شك أن الفرد إذا ما شعر بالثقة في المؤسسة العلمية التي تغذِّيه بالفتاوى الشرعية ستجده مستقراً – غير متذبذب – فقهياً سواء في أعماله التعبدية أو تفاعله مع المجتمع، فلا ننسى أن الفرد هو لبنة في جدار المجتمع فالاهتمام به جزء لا يتجزأ من الاهتمام بالمجتمع، كما أنه إن كانت مؤسسة الإفتاء تابعة للدولة وليست لإحدى جمعيات النفع العام مثلا واستطاعت أن تكسب ثقة الفرد فهي في الحقيقة كسبت ثقة الفرد في ولاة أمره .
ب- على المجتمع : في الحقيقة ليس ثمة خلاف كبير بين الفرد والمجتمع؛ لأن الفرد كما قلنا خلية في جسد المجتمع، لكن من الممكن أن نضيف قائلين إن الإفتاء المؤسسي هو تحصين للمجتمع من أن يخترق من قبل الفتاوى التي تهدف إلى تمزيقه تحت شعار الدين، كما أنها أمان من تمييع الدِّين وتفكيك أواصره في قلوب أفراده تحت مسميات حقة يراد بها الباطل ، بل إنها تساعد في كثير من المشاكل الاجتماعية والتي تعاني منها مؤسسات الدولة لاسيما الإصلاحية منها ، فحقوق الرحم وحقوق الجار، ومعالجة المشاكل الزوجية والأسرية للفتوى فيها صولات وجولات لدى أفراد المجتمع كما هو مشاهد؛ فالمجتمع يلجأ للمفتين عبر القنوات الفضائية أو مواقع الإنترنت أو غيرها للحصول على حل لمشاكله الخاصة، والمفتي في بعض الأحيان قد لا يكون متمكناً علمياً فيأتي بالطَّوام، أو قد يكون جاهلاً بأعراف البلد فلا تطابق الفتوى الواقعة المسئول عنها، فتأتي العواقب وخيمة . فكما هو معروف لدى الفقهاء أنه من الضروري أن يعرف المفتي عُرف البلد المسئول منه لاسيما في القضايا الاجتماعية .
ج- على الدولة : وهي الحلقة الثالثة والمهمة وهي ذلك العقد الذي يضم أفراد المجتمع، فمتى تم كسب ثقة المجتمع بمؤسسة إفتائية حقيقية غير صورية لتمتعها بصفات - سنذكرها لاحقاً – فستقطع الطريق على كثير من المغرضين وذوي المآرب ، كما أنها خطوة فعالة نحو تقليل استيراد الفتاوى من خارج المجتمع والتي لا تتناسق مع طبيعته وظروفه .
ومن خلال النقاط سالفة الذكر يتضح لنا مدى خطورة خلو المجتمع من مؤسسة إفتاء لا سيما الرسمية منها ، حيث إننا نُلجئ المجتمع ونضطره للبحث عمن يحل مشاكله الشرعية عند من لا يتقنون فن الفتوى في كثير من الأحيان!
بقلــم/ تركي عيسى المطيري
مدير إدارة الإفتاء